قال زياد في صفحته على تويتر -ردا على مقالي (هل زياد الدريس، لا سامي؟)، المنشور الأسبوع الماضي-: «زبدة المقال: زياد الدريس اليونسكو غير زياد الدريس قبلها».
يضطرني زياد إلى أن أنقض ما أبرمته في ذلك المقال، وهو أني حصرت ما كتبته عنه وعن نظراته المراوغة بمقال واحد. وسأكتب الآن عنه مرة أخرى، مكتفيا بالقليل القليل من الشواهد التي تدعم بعض ما قلته من آراء وأحكام نسفية وتسفيهية في كتابه: (حروب الهويات الصغرى: في مكافحة التصنيفات الإقصائية) التي تؤكد أنه منذ تحوله غير الجوهري وغير العميق، يعتمد في طريقة تفكيره وإعلانه عن آرائه على المراوغة والمخاتلة والتلفيق الفج والجمع ما بين ما يمتنع الجمع فيه إلا عند الذين لا يأبهون لمعاريض الكلام، وتستعجم عليهم المدارك الظاهرة، لسقم في الفهم وبلادة في الفكر. وأقول سأكتفي بالقليل القليل، لأني كما قلت في مقالي الأول عنه، إني لست في سبيل التفصيل وإثبات ما قلته عن كتابه المذكور، وإني لا أريد التورط في كتابة أكثر من حلقة عنه، ذلك أني أعلم أن القارئ يسأم من المقالات المسلسلة. ولا أكتمكم أني قد أكتب عنه مقالات مسلسلة إذا ما اضطررت لفعل ذلك. وما قاله وما يقوله زياد من آراء وأحكام وتحليلات تنظيرات، يمنحني السعة في التفصيل والبحبوحة في الإثبات. فهذا أمر هين لين، سمح، ولا يتطلب مني أدني جهل وأقل تعب.
في بداية ردي على رده، أشير إلى أن زبدة مقالي الأول -كما قال هو- زياد الدريس اليونسكو غير زياد الدريس قبلها، قول غير صحيح. فما اختصره هو في قوله، هو عبارة عن الشكل أو الناظم في المقال، وهو -أيضا- وجه من أوجه النقد لكتابه ولتوجهه الفكري. ولأن ما اختصره، كان عبارة عن الشكل أو الناظم في المقال، ولأني كنت في معرض الإيجاز والاقتضاب، فلقد اعتمدت -على سبيل الإجمال في تقسيم كتابته عن هتلر وعن كتابه (كفاحي)، وعن النازية واليهود- على مرحلتين: مرحلة ما قبل اليونسكو مباشرة ومرحلة ما بعدها.
فهذا التقسيم يتعلق بموضوع واحد، هو إيمانه وتبنيه للموقف النازي وللموقف الأصلي في العقيدة والتراث المسيحي من اليهود، وللأباطيل والخرافات الأرثوذكسية والكاثوليكية الغربية عنهم. وهو إيمان وتبنٍّ يشترك فيه مع بقية الإسلاميين في العالم العربي والعالم الإسلامي. إضافة إلى هذا، فالتقسيم لا يشمل موضوعات زياد الرئيسية، التي هي أوسع كثيرا من المثال الذي وفقا له أجريت التقسيم.
لو أنني كنت في سبيل تفصيل تقسيم مراحله السياسية والثقافية والعقدية لا أجمالها، ولو أنني كنت أريد أن يكون هذا التقسيم شاملا لتاريخ كتاباته وموضوعاتها منذ أن عرف اسمه بوصفه كاتبا محترفا في المنتصف الأول من الثمانينات الميلادية، لأقمته على هذا النحو المتتالي: زياد الأصلي ذو الخطاب الأصولي التهييجي المغالي. زياد ما بعد اعتقال بعض زعماء الصحوة الإسلامية السعوديين وأعداد كبيرة من الناشطين فيها سنة 1994. زياد ما بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر. زياد ما بعد تعيينه مندوبا دائما للسعودية لدى منظمة اليونسكو في باريس سنة 2006. وقد يسأل ممن هم معنيون بزياد: لماذا أتجاهل حصوله على الماجستير سنة 2002 وعلى الدكتوراه في سسيولوجيا الثقافة من جامعة موسكو التربوية الحكومية، سنة 2007، فلربما أن لهما صلة بالأطوار أو المراحل التي رأيت أنه مر بها؟ أجيب عن سؤال كهذا: بألا صلة لحصوله على الماجستير والدكتوراه من تلك الجامعة بالمراحل والأطوار التي مر بها، إذ لا أثر لحصوله على الدكتوراه في هذا الحقل في كتاباته، فهو إلى الآن لم يدخل إلى رحاب -إذا صح التعبير- سسلجة الثقافة بعد. وأرى أن دخوله إلى هذا الرحاب متعذر، لأن مفهومه للثقافة في الأساس وفي المجمل وفي العام، مفهوم لا تاريخي شأنه في هذا شأن الإسلاميين كافة. إن صلته بهذا الحقل صلة قص ولصق. وسآتي بتشبيه يوضح المقصود. في كتاب له جمع فيه مقالات صحفية أسماه (قل من أنا... أقل لك من أنت) ثم أردف هذا العنوان بعنوان متمم هو: كلام في سوسيولوجيا الثقافة. في الصفحة الأخيرة من كتابه: (حروب الهويات الصغرى...)، قائمة تضم ما صدر له من كتب سابقة. يسترعي الانتباه فيها أن الكتاب المذكور سقط من عنوانه العنوان المتمم: كلام في سوسيولوجيا الثقافة! ذلك لأن القص كان ضعيفا واللصق كان هزيلا.
بعد أن اختصر زياد فحوى مقالي عنه، بجملة غير صحيحة، سأل مستنكرا: وهل نفيت هذا عني يوما ما. يقصد هنا أنه لم ينف أن ثمة «زياد» ما قبل اليونسكو و«زياد» ما بعد اليونسكو. وردا على سؤاله، سأسأله سؤالا -هو الآخر- سؤال استنكاري: وهل أثبت يوما ما في كتاباتك -ولو من بعيد أو تلميحا أو حتى سهوا- أن اتجاهك السياسي والثقافي والفكري الأصولي الحزبي، قد طرأ عليه تغير، سواء أكان الإثبات قبل مرحلة اليونسكو أو بعد مرحلة اليونسكو؟ إنه لم يثبت شيئا من ذلك حتى وهو في معرض مناقشة قضية بمقال، كان يتخذ منها موقفا مختلفا أو يمارس إزاءها تصرفا مغايرا في فترة سابقة، بل هو يوهم القارئ أن موقفه الحالي في المقال هو موقفه القديم ومن الأساس، مثله في هذا كالمؤلف الذي يتواطأ معه ناشر في تقديم طبقة متأخرة من كتاب عدل ونقح وأضيف وحذف منه، بوصفه طبعة طبق الأصل من الأولى. فعلى سبيل المثال ابتدأ منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر يؤاخذ برفق ولين ونعومة الذين تربطه بهم قرابة فكرية من المنتمين للتيارات الدينية، على بعض تشددهم وتزمتهم، مع تقديم نفسه على أنه كان متجاوزا للتشدد والتزمت، وأنه دائما وأبدا متموضع في مواقع الاعتدال ومتربع في المقعد الوسط، رغم أنه كان في ما مضى راديكاليا، وكان محكوما بالتشدد والتزمت ويسير بمقتضاهما. وكتابه (حروب الهوية الصغرى: في مكافحة التصنيفات الإقصائية) -بسبب موضوعه- كان مناسبا فيه أن يشير في مقدمته إلى أنه في فترة ماضية، كان واقعا في غل التصنيف الديني الحركي المحدث، العدائي الكاره والحانق على كل ما سواه في الحاضر والماضي.
رثى زياد الصحفي صالح العزاز حين توفي سنة 2002 بمقال عنوانه (حكاية الثوري المهذب!). صالح العزاز حينما التقاه زياد، كان سكرتيرا لتحرير مجلة (اليمامة)، وكان يشرف على عدد من الصفحات من المجلة، ومن بينها صفحات بدأ منها زياد مشواره مع الكتابة. في هذا المقال ذكر أن صالح كان يحوز على صفات تدعو إلى الإعجاب في توازناتها، والتي منها من وجهة نظره أنه «تقليدي في لباسه وهندامه، لم يخلع وقار ثوبه وغترته ويرتدي الجينز والملابس البالية، كما يفعل بعض إخواننا الثوريين»! ومع حيازة صالح لصفات هي تعجبه إلا أنني -يقول زياد- «كنت ملزما أن أكره صالح العزاز لأنني سمعت -أو أسمعت!- كلاما يحثني أن أكرهه، إذ هو ليبرالي وأنا محافظ (ولا حاجة لاستخدام مصطلحات تصنيفية أشد وطأة من هذه!)»!!! زياد خضع لما ألزم به نفسه من كره صالح. وكان زياد كلما قابل صالح في المجلة، قابله الأخير بالبشاشة والدماثة وحسن أدب. ورغم هذا فقد جهر بما كان يعتمل في نفسه، وهو أنه ملزم «بكراهية صالح حتى لو فرش لي الأرض وردا وطيبا». بسبب موقفين فعلهما صالح -يقول زياد- «كان يجب أن أختار بين أن أكون إنسانا أو حجرا... لكنني أخيرا اخترت أن أكون إنسانا».
الموقف الأول، هو أن زياد في سنة 1993، كان مريضا في مستشفى خارج مدينته مدينة الرياض، ففوجئ بشابين مهذبين قطعا مسافة 500 كيلومتر لزيارته، لم يرهما من قبل... «وتقدم أحدهما وقال: أنا أخو صالح العزاز، وهو كلفنا بزيارتك نيابة عنه لسفره خارج المملكة».
الموقف الثاني، دعاه صالح إلى جلسة تضم لفيفا من رجال الحسبة ولفيفا من المتحررين. في هذه الجلسة اعتبر زياد بعض ما رواه المتحررون من وقائع تتعلق بتصرفات رجال الحسبة، حكايات خرافية عنهم. وأعجبه أن صالح تصدى لتذويب كثير من هذه الحكايات، وكأنه من رجال الحسبة! هذا الموقف جعله يسأل: «ما الذي دعا صالح إلى إقامة هذه المأدبة الحوارية؟ ألم يكن قادرا على تشويه سمعة الهيئة عن بعد، كما يفعل بعض أصحاب الفكر (الجينزي؟)».
هذا المقال ضمه إلى مقالات أخرى في كتاب اسمه (حكايات ورجال). هذا الكتاب كانت طبعته الأولى في سنة 2004. وآخر طبعة رأيتها هي الطبعة الثالثة التي صدرت قبل قرابة سنتين من صدور كتابه المشار إليه، والذي خاض فيه بحديث مختلط ومدخول في موضوع عن الحزب والحزبية والتصنيفات العقدية والفكرية، متنصلا فيه من ماضيه السياسي والفكري.
زياد الحاصل وقتها على ماجستير سوسيولوجيا الثقافة من موسكو، كان ما يزال يستفزه ارتداء سعودي لبنطال الجينز! وارتداء الجينز عنده ما يزال سبة وشنارا ومسقطا لمروءة لابسه. لهذا فإنه ذم حداثيي الصحافة وحداثيي الأدب والمتحررين عموما، بأنهم أصحاب الفكر (الجينزي)!
لنحاول أن نعقل هذا الموقف ونحاول أن نفهمه حتى لو انخفض مستوى النقاش إلى مستوى عامي بسيط: هل كراهيته الدينية للحداثيين التي يرى أنه ملزم بها، سببها الجينز أم لأنهم على غير أمشاج ملته السرورية الإخوانية السلفية؟! إنه يدلس هنا فهو لن يقبل بالحداثة وبالحداثيين حتى لو ارتدوا زيا محليا (أو وطنيا) كالثوب مع الشماغ والطاقية أو الفوطة مع الفانيلة أو الوزرة مع القميص أو الجلابية مع العمامة! إنه إلى ذلك الوقت المتأخر لم يدرك أن الزي شأن شخصي. وكل شخص هو حر في الزي الذي يختاره سواء أكان هذا الزي زيا محليا أم زيا عالميا.
إذا كان الموقف موقفا دينيا وثقافيا من الجينز، لماذا يستسيغ من أصحابه وأهله وعشيرته، جماعة الإخوان المسلمين، لبس الجينز في بلدان الشام والعراق واليمن ومصر والسودان وبلدان شمال أفريقيا؟ ولماذا يقبل لبسهم إياه في بلاده هو؟ وهل يجيز سحب تسمية الفكر الجينزي على معتقداتهم؟ ماذا لو أخبرتكم أن الجينز الذي كان ذم أهل الحداثة والمتحررين فيه، بأنهم كانوا أصحاب فكر (جينزي)، كان يرتديه شخص واحد، لدواع عملية. هذا الشخص هو أديب وصحفي وكاتب حداثي متعاون مع مجلة (اليمامة)، يشترك وصالح المتفرغ للمجلة في مكتب واحد.
عندما علل زياد كرهه لصالح، لكون صالح ليبراليا ولكونه هو محافظا، استدرك بجملة اعتراضية يمكن التعبير عنه أنه استخدم إزاء صالح وإزاء نفسه تصنيفا يخفف من حدة وعمق التناقض الوجودي بينهما. وكان هذا الاستدراك هو أسوأ جملة في المقال، الذي يجب ألا ننسى أنه جاء في مقام الرثاء!
إننا لو تأملنا في طبيعة الموقفين اللذين بسببهما تغيرت نظرة زياد إلى صالح إلى نظرة تثمينية، لوجدنا أنها تنم عنها طبيعة تتسم بأنانية مفرطة. في الموقف الأول أنانية شخصية. فتكليف صالح أخويه بزيارته في المستشفى هز -كما قال- كل القوائم التصنيفية لديه، ففي حين لم يزره بعض الذين كان يراهم كل يوم من أيام السلامة، يأتي هذا الرجل المصنف لديه، البعيد عن قائمة الأقرباء والأصدقاء والأولياء والأوفياء، ليلتفت هذه اللفتة التي لم تخطر على بال. وفي الموقف الأخير أنانية حزبية فصالح عندما لاذ بخندق تيار زياد وصار يدافع عن رجال الحسبة وكأنه منهم! رضي عنه تماما!
لا يوجد في هذا المقال إشعار بأنه كان على خطأ ولا تخللته نبرة ندم ولا انطوى على مراجعة لعقيدته الحزبية -التي كما لمسنا كانت قاسية وغليظة وفضة إزاء صالح الذي كان ودودا وفاضلا وخيرا معه-، بل كان يسوغ ويبرر من خلال فذلكات لتصرفه الوفي لهذه العقيدة الكريهة. يفعل ذلك لثقته بأنه في أي حال من أحواله المتغايرة، هو على حق، وقوله وتصرفه السابق واللاحق، وإن تغيرا، لا يمكن إلا أن يكونا حقا.
إن ما يرويه زياد لا يصلح أن يكون مصدرا لمعلومة، خذوا هذا المثال الساطع:
في كتابه (حروب الهويات الصغرى...) قال: «سأسوق من ذاكرتي نموذجين عشتهما في محيطي، أحدهما كارثي، والآخر تفتيشي:
الأول: الحملة التي اعقبت اعتداء جهيمان الإجرامي في العام 1979 على الحرم المكي الشريف وتخويف الآمنين فيه، حيث انتهز التيار الليبرالي الفرصة آنذاك لإلصاق تهمة التطرف الجهيماني، ليس بالمتطرفين فقط من التيار الديني، بل بكل إنسان ملتح أو ملتزم بسمات التدين، من خلال تخوينه واعتباره خطرا يهدد الوطن».
ردا على هذه الحكاية المخترعة أقول: في ذلك الوقت لم يكن هناك تيار ليبرالي، فالليبرالية في ذلك الوقت كانت متمثلة في أفراد، ولم تتبلور ويعبر عنها في تيار. كان هناك توجه أدبي صار يطلق عليه لاحقا اسم التوجه الحداثي، وتوجه آخر يسمى بالتقليدي. ولا مكان هنا لاستخدام اصطلاح المكارثية إزاء التيار الديني ولا الملتحين ولا الملتزمين بسمات التدين، لأن الدولة والمجتمع في السعودية قائمين في قانونهما أو نظامهما على عقيدة دينية سلفية.
أعرف ويعرف زملاء آخرون باحثون، راجعوا الصحف السعودية التي غطت حادثة الاستيلاء على الحرم المكي، وكذلك يعرف الصحفيون المعاصرون للحادثة، أنه لم تكن هناك حملة صحفية ولا يحزنون.
وقد لاحظنا أن المقالات في أثناء تغطية الحادثة خبريا، كانت جدا قليلة. وهذه المقالات لا يمكن تصنيفها ضمن تيار محدد بعينه، تقليدي أو معاصر. وقد أخذت الحادثة عند ذوي الرؤية العصرية من الصحفيين ونظر إليها ضمن تفسير ثقافي، وعلى وجه التحديد كان هذا المنحى في مقال كتبه محمد رضا نصر الله. وكان مقاله أميز مقال كتب وقتها. وبعد تحرير الحرم منع الحديث عن الحادثة خبريا ومقاليا. ومنع الحديث عنها في الأبحاث والكتب. واستمر هذا المنع بضع سنوات.
وقد ظهر لي ولأولئك الزملاء الباحثين أن المصدر المفيد عن الحداثة ليس الصحف السعودية، وإنما المجلات والصحف اللبنانية وفي ترتيب متأخر عنه، تأتي الصحف والمجلات المصرية.
إني أؤكد أنه لم يقدم كاتب سعودي على إلصاق تهمة التطرف «الجهيماني» بتيار الصحوة الإسلامية الناشئ وقتها، ولا على إلصاقها بكل إنسان ملتح أو ملتزم بسمات التدين، من خلال تخوينه واعتباره خطرا يهدد الوطن.
هذه الفرية مستمدة من واقعة ملتبسة، وهي أنه سرت شائعة شعبية عند السعوديين إبان الحادثة، أن الحكومة تنوي اعتقال الملتحين للتحقيق معهم، بشأن إن كانت لهم صلة بجماعة جهيمان العتيبي أم لا. أحد الصحفيين العرب الذي كان من بين الذين وفدوا إلى السعودية لحضور مؤتمر صحفي عقده الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية وقتذاك، سمع بتلك الشائعة من بعض السعوديين. وفي ذلك المؤتمر الذي بثت وقائعه في التلفزيون السعودي، سأل الصحفي العربي الأمير عن صحة الإجراء الذي ستعمل أجهزة الأمن به، وهو توقيف الملتحين للتأكد إن كانت لهم صلة بجماعة جيهمان أو كانوا مؤيدين لها. دهش الأمير من السؤال، وبدا ذلك واضحا من التعابير التي ارتسمت على وجهه. ونفى أن يكون ما يقال صحيحا. وتحدث بما معناه عن فضل إعفاء اللحية، وذكر أن نسبة كبيرة من السعوديين يعفون اللحى. هذه هي الواقعة التي هي في أصلها تهويم شعبي خلقه عامة من الناس تحت تأثير خطب جلل ثم صدقه بعضهم.. أوردها زياد على أنها حقيقة دامغة، وبنى عليها أحكاما قضائية نهائية تدين الصحافة والمثقفين السعوديين وتدين تيارا فكريا لم يتخلق وينشأ إلا بعد عقدين من حصول حادثة الحرم!
إن الصورة الأقرب إلى الحقيقة في ما يتعلق بحركة الحداثة في الصحافة والأدب -مع تذكر أن تلك التسمية، كما قلنا سابقا، لم تكن قد لحقت بها بعد- ويتعلق بحركة الصحوة الإسلامية، في وقت حصول حادثة الحرم، هي ما يلي: الموقف العربي اليساري العام أيد في كثير من تنظيماته حركة جهيمان، وأسبغ على جهيمان في أدبياته صفة الشهيد. مجلة (الطليعة) الكويتية -التي هي لسان حال الشيوعيين واليساريين واليسار القومي والناصريين في دول الخليج والسعودية- عبرت في تغطيتها الحادثة «عن تعاطف ملتوٍ مع جهيمان، وفي خضم هذا التعاطف الملتوي أزجت تقريظا مجانيا لتيار الصحوة الإسلامية، لا لشيء سوى أن هذا التيار في ذلك الوقت كان يحمل في بعض صفوفه بذرة معارضة سياسية». حركة الحداثة في السعودية من حيث إطارها السياسي والثقافي والعقدي، ومن حيث التجارب والحركات السياسية المؤمثلة في وعيها، ومن حيث الاتجاه الغالب فيها هي يسار وقومية تقدمية. وهذا لا ينفي عنها أنها كانت تضم بين صفوفها ليبراليين وتقليديين ومحافظين وحكوميين وأصحاب عقلية دينية وثقافية اتباعية. ولا يعني هذا أني أقول إنها قد احتذت بموقف اليسار العربي العام وبموقف مجلة (الطليعة) الكويتية.
موقف مجلة (المجتمع) -التي هي لسان حال الإخوان المسلمين والسروريين في دول الخليج والسعودية- كان في الأساس متعاطفا «مع حركة الجماعة الفنية السرية بقيادة صالح سرية (1974)، ومع جماعة التكفير والهجرة بقيادة شكري مصطفى (1978)، وحركة جهيمان (1979)، جاءت ضمن هذا الخط الديني والسياسي والاجتماعي المتطرف». ولأن الحادثة حصلت في السعودية لا في مصر، فلم تجرؤ المجلة على تأييدها. وأحد الأسباب أن المجلة كانت مدعومة من وزارة المعارف السعودية باشتراك ضخم يستفيد الطالب ما قبل الجامعي منه، من خلال دفع مبلغ مالي زهيد، نظير اشتراكه سنة كاملة في المجلة. والمجلة كانت في السعودية وفي دول الخليج بمثابة وسيلة التغذية والتعبئة والشحن السياسي والفكري الحزبي الأسبوعي لحركة الصحوة. ولتبيان أهمية موقع هذه المجلة في حركة الصحوة، أشير إلى أن ظاهرة الصحوة في المدارس ما قبل المرحلة الجامعية في أول السبعينات الميلادية، كان الطلبة في الرياض -كما أخبرني الصديق أحمد القاسم- يطلقون على أصحابها (جماعة المجتمع)! «في الأيام الأولى من وقوع حادثة الاستيلاء على الحرم، وفي تعليقها الأسبوعي ترددت (مجلة المجتمع) بأن تتخذ موقفا واضحا، فجعلت موقفها -كما نقول بالدارجة- على شارعين. ثم بعدها طرحت استشكالات فقهية مفادها «هل يجوز للسلطات إذا ما لجأ الخارجون عليها إلى الحرم المكي أن تقاتلهم أم أنه يحرم عليها ذلك؟». الكلام السابق وما ورد بين علامتي التنصيص مع إضافات، هو بعض ما قلته عن موقف مجلتي (الطليعة) و(المجتمع) الكويتيتين في دراستي عن النفيسي. ومرة أخرى، هذا لا يعني أني أقول إن موقف حركة الصحوة في السعودية كان مترددا في اتخاذ موقف واضح من الحادثة. ولا أنه كان «مربكا ومرتبكا ويتسع لتأويلات مناقضة ومتدابرة»، كما هو حال المنبر الذي كان يعبر عنها. وأعني به مجلة (المجتمع). وبرغم موقف المجلة المتخاذل في نصرة الحكومة السعودية في تلك المحنة. ورغم أن المجلة لا تعلن ولا تهمس بتأييد توجهات الحكومة السعودية وسلوكها في المضمار السياسي والأيديولوجي ولا تدافع عنها أمام المهاجمين لها، فلقد استمر الدعم لها بالحجم الذي كان في السابق. أما النموذج الثاني الذي عاشه في محيطه كما قال، ووصفه بأنه (تفتيشي) فيقصد به «الحملة التي أعقبت الهجوم على الحداثة في العام 1987 وما صاحبها من تكفير، حيث لم تتوقف الحملة ضد المنتمين الحقيقين للحداثة الفكرية المنحرفة منها فقط، بل شاطت ألسن التيار الإسلامي لتجعل كل من كتب نصا رمزيا أو شعرا غير مقفى هو حداثي ضال عن الدين!... إلخ».
زياد في هذا النص هو مع الحملة الدينية التفتيشية (التفتيش هنا نسبة إلى محاكم التفتيش المسيحية الشهيرة) التي شنت على الحداثيين السعوديين الحقيقيين، وهو -أيضا- مع ما صاحبها من تكفير لهم! وهو ليس ضدها إلا في جانب منها، وهو أنها قد طالت الذين يقتصرون على استعمال الحداثة ضمن إطار أو قالب أو تقنية شكلية، كأن يكتبون نصا رمزيا أو شعرا غير مقفى! يقول زياد بهذا التنظير وبهذا التأريخ ويستعمل تعبير (الحداثة الفكرية المنحرفة) في كتاب يدعو إلى شرعنة الأحزاب والتعايش والاختلاف والتسامح! كما أنه يستعمل التعبير السابق ويتجاهل أنه يعمل سفيرا في منظمة دولية، نهضت وقامت على منظور أساس مناقض للتعبير الذي استعمله. هذا المنظور هو (النسبية الثقافية). وقد غفل -وهو يستعمل ذلك التعبير- أنه صدر كتابه باستهلال شكك أمين معلوف فيه بمفهوم الهوية، وعدها كلمة مضللة. دعا رضوان السيد في تقديمه للكتاب أصدقاء زياد أن ينفضوا عن كواهلهم كل أنواع الخوف الأصلي وفي طليعتها: الخوف من الحرية. هذا إذا ما أرادوا الاستمتاع بقراءة مقالات ومقولات الكتاب. دعوة كهذه ما كان على رضوان السيد أن يتوجه بها إلى أصدقاء زياد. لأن الحرية التي يخافونها، هي -على الإطلاق- غير موجودة في الكتاب. فما هو موجود فيه هو أصولية ظاهرة وأخرى مستترة. والأصولية لا تخيف أصدقاء زياد ولا تجفلهم، بل هي تجلب لهم فيضا من السرور.
* كاتب وباحث سعودي